خاصّ | "طوشة الباصات" 1959: صمتُ الذاكرة عن الهبّات (3/1)

تسلل الباص إلى ذاكرة الشفاعمريين وحياتهم، وبات بطلًا لحكاياتها على إثر التغييرات الجذرية والحادّة التي أحدثتها النكبة في المبنى الاجتماعي والطبقي للبلدة من خلال تحويل الفلاح، قسرًا إلى عامل على هامش المدينة الفلسطينية، بعد تحطيم المدينة والريف الفلسطيني معًا

خاصّ |

حوّلت النكبة أبناء القرى إلى عمّال في المدينة؛ باص في حيفا

كان عام 1959 ثقيلًا بأحداثه على شفاعمرو التي لم تكن قد لملمت جراح نكبتها بعد، فقد حمل إليها حدثًا استثنائيًا لم تعهده في تلك الظروف، ولم يعلم أبناء البلدة أنهم سيشهدون فيه فصلًا لملحمة بطوليّة لعمّاله أمام قوات الشرطة الإسرائيليّة، وذلك أثناء احتجاجهم على تمييز شركة نقل العمال "إيغيد" بحقهم. سطّر أهالي شفاعمرو، وعمّالها تحديدًا، أولى هبّات الداخل الفلسطينيّ في وقت تسللت الهزيمة إلى نفوس هذا الجزء من الشعب الذي رزح تحت حكم عسكريّ حتى عام 1966. هي هبّة الباصات العمالية أو كما عرفها القاموس الاجتماعي الشعبي "طوشة الباصات"، التي راح ضحيّتها الشهيد محمد أبو رعد.

نحاول في هذه المادة المنشورة على ثلاثة أجزاء، أن نحفر الحدث وأن نستنطق ذاكرته بما باحت به وما صمتت عنه، والعودة إليه لنسأل عن السياقين السياسي والاجتماعي للهبّة، ولماذا فلتَت هذه الهبّة من ذاكرتنا السياسية والاجتماعية الجامعة؟ وكيف تحوّلت إلى "طوشة " في القاموس الاجتماعي البلدي؟ وكيف يكشف لنا ذلك عن سؤالِ هندسة الذاكرة الفلسطينية عمومًا وفي الحكم العسكري خاصةً؟


شفاعمرو: من البابور إلى الباص

"شد الها يا أبوها على الباص

وان طلبت مصاري عد الماس"

كان قدرًا لم يختره الشفاعمريّون بأن يستقر الباص في يومياتهم، وأن تهيمن حكاياته على صوغِ أهم الأحداث التي نحتت ذاكرتهم، إذ شكّلت النكتة الشعبية المنقولة عنهم "تشرب قهوة ولا تلحق الباص"، عنوانًا للتهكّم على أهل البلدة وتعييرهم بسوء استقبال الضيف، رغم أن القصّة الحقيقية تفيد بما هو عكس ذلك، فهي مرتبطة بامرأةٍ كريمة اعتادت على إعداد فنجان القهوة الصباحيّة للعمّال الذين ينتظرون قدوم الباص صباحًا عند المحطّة، وكانت خشيتها من "عدم اللحاق" بالباص تدعوها لسؤالهم، وهم في سباق مع الزمن، إن كانوا سيتمكّنون اليوم من احتساء قهوتها قبل مجيء الباص.

تمرّ السنوات ويتحوّل مشهد الباص إلى ما هو أكبر من التهكّم، وتشهد باصات شفاعمرو إحدى هبّات عمالها أواخر الخمسينيات ضد شركة "إيغيد" والشرطة، قبل أن تشهد باصاتها فصلًا من فجيعتها عام 2005 عندما كانت صدور أربعٍ من سكّانها على موعدٍ مع رصاصات الإرهابي ناتان زاده الذي دخل البلدة في باصها، وأفرغ خزائن رشاشه في راكبيه.

بين التهكم والبطولة واللوعة تشكّلت "متلازمة الباص" في شفاعمرو لتستفزّنا، في ذكرى "هبة وطوشة الباصات"، نحو الحفر في هذا العلاقة المربِكة مع الباص، وكيف عكست سياقًا سياسيًا وشكّلَت ثيمةً في القاموس الشعبي الاحتجاجي وفي هبةٍ نضاليّة عمّالية في سنوات الحكم العسكري. فاضت الذاكرة الفلسطينيّة بصورٍ لعلاقتنا بالمكان ووسائل النقل فيه ومنه، وللإمساك بخيط هذه العلاقة؛ نعود إلى ما قبل النكبة لاستنطاق الذاكرة الشعبية، إذ ارتسمت فيها صور عن حكايات الفلسطيني مع وسائل النقل، وعكست قصصًا عن الألم والفراق والحرب.

قطار البكّايات و"السفر برلك"

في البدء كان القطار. وبخلاف الباص، تبوح ذاكرة الفلسطينية الاجتماعية قبل النكبة بحكايات من الفراق والحبّ والحزن والفرح والحرب والثورة ارتبطت بالقطار لاعتباره وسيلة النقل المركزية التي أقلّت الحجّاج أو المطلوبين للتجنيد فترة "السفر برلك" وغيرها من المناسبات، فقد مثّل القطارُ حينها السفر عبر البحار، والعلاقة مع المحيط العربي أو العالمي الأكبر لفلسطين.

اعتُدي على عمال شفاعمرو باستمرار وطالبت البلدات العربية بلجنة تحقيق

على إيقاع طبول النفير والحرب، وصل المرسوم الموقَّع بأمر السلطان عام النفير، ويفرض بموجبه التجنيد الإلزاميّ على الشبان الفلسطينيين والشام لصالح الدولة العثمانية عام 1914، أو الحرب التي عرفها القاموس الشعبي بـ"حرب السلطان"[1] دلالةً منهم على رفضها واعتبارها حربًا لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

نُحتت في هذه المرحلة حكايات وقصص الهروب من التجنيد من خلال الهروب أو ظاهرة "الفراريي" الذين قصدوا المغاور، أو بدفع الرشاوى. ولم تكن شفاعمرو استثناءً فيرتسم في ذاكرتها قصص هروب عدد من أبنائها، الذين استقرّوا في الولايات المتحدة وفرنسا وغيرها، وكوّنوا فيها عائلات ظلّوا فيها حتى اليوم كناصر بحوث وعطالله الجمال وغيرهما[2].

أما أولئك الذين لم ينجوا من أمر السلطان، فقد رُحِّلوا وانتزعوا عن أهاليهم قسرًا إلى التجنيد عبر بابور[3] السكّة، وهي التسمية الشعبية الشائعة للقطار أو بابور البحر الذي أقلّهم نحو مصيرٍ مجهول المعالم. وعلى ضجيج السكّة وعبق دخّان البابور غنّى المجنّدون:

"بابور السكة خانك زمانك

عميت عيون الحلوي بدخانك"[4]

كما نال بابور البحر ما ناله بابور السكة من جفوةٍ وهجاء في صيحات صيادّي فلسطين الذين أنشدوه معاتبين:

"لولح يا هالبابور واندار

أخدت من شباب ملاح واندار

وأنا لابني ع شط البحر دار

وكيف يطيب مجروح الهوى"

استقرّت إذن، أغاني الفراق واللوعة في الحنجرة والصوت الفلسطيني عبر بابور السكة، وشكّلت جفوةً في العلاقة بينهما كما عرفتها الذاكرة في أغنيات "الشلاعيات" التي تروي دمعة المجنّدين في وداع الأمهات والزوجات على صوت دقّ المراكِب والبوابير:

"هي يما ودّعيني قبل ما مشي

ما تدري بعثراتي وانا امشي

يا قايد المراكِب قيد وامشي

عسى لله نلحق ظعن الحباب"

وقد اخترقت لوعة الفراق خلال البابور أغنية الدلعونا، وناجت دمعات الحبيبات أحباءهم فراقًا:

"سافَرْ حبيبي ببـابور السكِّة

وِالْقَلْبِ يْوَدِّعْ وِالْعينِ بْتِبْكي

تِحْرَمْ عَلَيِّ النَّزْلِة عَ الدبْكي

عَ طولِ غْيابَكْ يا اسْمَرْ اللونا"[5]

جحش السلطان

عُرف القطار بالقاموس الاجتماعي الفلسطيني بتسميات أخرى غير البابور، وذلك بعد أن ارتبط بالأعمال الصناعيّة الحديثة منذ مطلع القرن العشرين في فلسطين، حيث أصدر السلطان حينها أمرًا على أهالي شفاعمرو والمنطقة بالعمل في تقطيع أشجار السنديان التي كنت مسترخية في بطن الكرمل وسفوحه[6]. وكان الهدف هو تزويد الحطب للبوابير التي كانت تعمل بالفحم الحجري، فأطلق أهل الشام على البابور والقطار اسم "جحش السلطان" أو "جحش الدولة" الذي ينهب حطب البلاد وأشجارها.

أما الباص فلا مؤشر على أنه قد نال من ذاكرة الشفاعمريين موقعًا بصورة خاصة، إذ أن الباصات تواجدت في المدن الفلسطينيّة أساسًا منذ منتصف عشرينيّات القرن العشرين. وعلى الرغم من اعتبار شفاعمرو مدينة، إلا أن المبنى الاجتماعي والطبقي فيها كان ريفيًا بامتياز، فقد عملت غالبيتها الساحقة في الفلاحة حتى نهاية الاستعمار- "الانتداب" البريطاني.

تسلُّل الباص للذاكرة والقطيعة مع البابور

تسلل الباص إلى ذاكرة الشفاعمريين وحياتهم، وبات بطلًا لحكاياتها على إثر التغييرات الجذرية والحادّة التي أحدثتها النكبة في المبنى الاجتماعي والطبقي للبلدة من خلال تحويل الفلاح، قسرًا إلى عامل على هامش المدينة الفلسطينية، بعد تحطيم المدينة والريف الفلسطيني معًا، ليلخّص الباص بعدها قصة وجوديّة بالنسبة للعامل الفلسطيني، وبات ارتباط البلدة بالباص محكوما بلقمة العيش وكيان العائلة، وذلك مع فرض التقييد على الحركة في حقبة الحكم العسكريّ.

عنوان إخباريّ؛ "استئناف حركة الباصات من شفاعمرو" إلى حيفا. كما يشير الخبر إلى اعتقال 88 شخصا.

لم تبدأ عملية تحويل الفلاح الشفاعمريّ إلى عاملٍ بعد النكبة حصرًا، بل كانت هذه العملية قد عرفت أولى أشكالها في الثلاثينيات على ضوء تطوير "الانتداب" البريطاني لحيفا، من خلال مشاريع التصنيع وسكّة الحديد ومفاعل تكرير النفط وخط أنبوب نفط كركوك- حيفا، فضلا عن تشييد مصانع الألبسة والأحذية للجنود البريطانيين، استعدادًا للحرب العالمية الثانية. وقد شهدت شفاعمرو هجرةً بسيطةً لبعض أفراد العائلات إلى حيفا للاستفادة من هذه الأعمال، وبخاصة من المسيحيين ميسوري الحال، الذين كان لهم الفضل في تأسيس شركة باصات "11"، ومن بينهم المحامي حنّا عصفور[7]، لكنّه كان مسارا لا يقارن، كمًّا وشكلًا، بالمسار الذي فرضته النكبة على أهالي شفاعمرو.

في أسباب العمق للهبّة

شفاعمرو: من المحراث الى "مفراتس" حيفا[8]

لم تضرب النكبةُ جسدَ المدينة الفلسطينيّة في مقتلٍ فحسب، بل ضربت جسد القرية لتقتل المبنى الريفيّ فيها أيضًا. لقد حطّمت النكبةُ والسياسات الإسرائيليّة المبنى الاجتماعي والاقتصادي الريفي للقرية الفلسطينية، وحوّلت أبناءها إلى عمّال في المدينة الإسرائيلية بفعل مصادرة أراضيها والتضييق على الفلاح والزراعة فيها.

لا تستوعب المدينة الإسرائيليّة العامل الفلسطيني إلا عاملًا على هامشها، فهي تتقيّؤه سياسيا واجتماعيا خارجها، وبالتالي لم تتطوّر هجرة حادّة من القرية الفلسطينيّة إلى المدينة، وفقدت القريةُ ريفَها وتوسعت من حيث تعداد السكّان، بفعل انحسار الهجرة منها، لكنها لم تتحوّل إلى مدينة حقيقيّة، بل إلى "بلدة"، لا هي قرية ولا هي مدينة[9].

لم تكن شفاعمرو استثناءً في هذا المسار، فقد امتلكت شفاعمرو عشية النكبة قرابة 95 ألف دونم[10]. ومع حلول النكبة وإقرارِ القوانين العنصرية لمصادرة الأراضي، تقلّصت مساحتها إلى قرابة 21 ألف دونم[11] (أي إنها فقدت قرابة77% من مساحتها)[12].

تغيّر المبنى الطبقي- الاجتماعي الشفاعمريّ تغيّرا حادًّا مع قضم الأرض والتضييق على قطاع الزراعة، وتحوّل غالبيّة سكانها إلى طبقة عماليّة على هامش المدينة الإسرائيلية، بصورة قسرية لا طبيعية. إذ وصلت نسبة العمّال نحو 45% من مجمل أصحاب العمل، بينما لم تتجاوز نسبة الفلاحين والمزارعين الـ30% -بعد أن كانت قرابة الـ80% أيام الاستعمار- "الانتداب" البريطاني. أما طبقة التجارة الصغيرة والحرفيّين، فلم تتعدّ الـ17% من بين معيلي الأسر عام 1958[13].

ولم تُشكّل البلدة اقتصادًا محليًا مستقلًا، فالمصالح التجارية المحلية التي كانت قائمة في تلك الفترة تدلّ على ضعفها وتواضعها، مقارنةً بحجم السكّان الذي وصل إلى قرابة 6200 نسمة عام 1959.

خارطة الاقتصاد المحلي الحرفي والتجاري[14]

الفرع العدد

محلات تجارية (بقالة، خضروات، ملبوسات وأحذية)

50

مقاه ومطاعم

8

صالونات حلاقة

4

ورش تصليح سيارات

3

ورش حدادة

3

ورش نجارة

2

مطحنة قمح

2

معاصر

2

سيارات شحن

55

تاكسي

1

باص

1

ممّا يعني أن شفاعمرو عجزت أن تشكّل قاعدة إنتاجية اقتصادية محليّة مستقلة، وباتت تابِعة كليًّا للمدينة والمركز الإسرائيلي.

الطريق إلى الهبّة يمرّ عبر الباص

وُلدت هبة وطوشة الباصات عام 1959 من هذا الرحم والسياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي، إذ كان العامل يئنُّ تحت وطأةِ سياسة الرقابة والضبط في الحكم العسكري الذي هدم مركز الفلسطينيين السياسيّ وقمع تنظيمهم كجماعة، وحوّلهم إلى مجتمع مجزّأ ومقطّع الأوصال في بلدات تعيش على هامش المدينة الإسرائيلية، لا يستطيع عمّالها أن يُدركوا عملهم أو ورشتهم إلّا بتصريحٍ من ممثّل الحاكم العسكري في المنطقة، وبباص ينقلهم إلى الورشة. وشكّلت سيطرة الإسرائيليّ على شركات النقل والباصات، وإقصاء الشركات العربية، أو احتواء بعضها أحد أدوات الضبط للحركة والاقتصاد.

كما لم ينجُ العامل من السياسات العنصرية الإقصائيّة لنقابة العمال الإسرائيلية الصهيونية "الهستدروت"، التي لم تقبل عضوية العامل العربي فيها حتى سنوات بعد الهبّة، ضمن رؤية "العمل العبري" الفاشيّة التي تقوم على إقصاء العامل العربي واستبداله بيهودي.

تتطلّب قراءة الهبة، الحفر برشاقةٍ في الموقع القومي للعامل الفلسطيني وكذلك في تقليم الأبعاد المادية والطبقية لهذا الموقع، وقد انعكست هذه الجدليّة في العلاقة المرتبكة المتشكّلة مع الباص، بعد أن قُطعت العلاقة مع القطار (البابور). فإذا كان القطار قد مثّل السفر عبر البحار والتواصل مع المحيط العربي والعالمي، فقد قُطع وبُتر هذا التواصل في الحكم العسكري، ومثّل الباص فيه حالة التنقّل المقيّدة بين البلدات والوحيد المتوفّر ضمن سجن الفلسطيني لتأمين لقمة العيش وكفاف اليوم.

تسيّس الباص

شكّلت حكاية العامل الفلسطيني مع الباص الإسرائيلي جزءًا من حكايته مع التنكيل والحكم العسكري، وصورةً للعلاقة اليوميّة معه، إذ ترسم الحكايات الشعبيّة الفلسطينيّة مشاهدَ لعمّال فلسطينيّين يخرجون من بيوتهم مهرولين ورغوة صابون الحلاقة لا تزال تكسو لِحاهم خوفا من ألّا يدركوا الباص لما يعنيه لهم من حاجة وجودية.

ومع عودة إلى صديقتنا المِضيافة التي يتهكّم الناس من خلالها على الشفاعمريين لأسلوب تقديمها القهوة للعمال صباحًا: "تشرب قهوة ولا تلحق الباص"، نستكشف أن استخدامها لكلمة "تلحق" لم يكن عبثيًا، فالباص بالنسبة للعامل في تلك الحقبة ليس نزهة "يركبون فيها"، أو ترفيهًا، إنما سباق مع الزمن والوقت لإيجاد مكانٍ فيه وإيجاد لقمتك من خلاله في مجتمع كان تكوينه الاجتماعي مسكونًا بدواعي البقاء والنجاة.

"خلل تقنيّ يُحدِث توتّرا في سخنين"

كان طريق العامل إلى الباص معركة توازي معركة البحث عن عمل، حيث كان عليه أن يجد مقعده أولًا داخل الباص قبل أن يجد مكانه في ورشة العمل، وقد عانى عمّال شفاعمرو من نقص في عدد ووتيرة الباصات الممنوحة للبلدة من قِبل شركة "إيغيد". وتحوّلت الساعتان بين الخامسة والسابعة صباحا إلى معركة بين العمّال على الأمكنة[15] فما إن يصل الباص حتى المحطة قبل الأخيرة في شفاعمرو (مدرسة المكتب)، إلا ويكون قد امتلأ بما يفيض عن سعته[16].

كانت قِلّةُ توفّر المواصلات والباصات المزوّدة من شركة "إيغيد"، تحول دون وصول العامل إلى العمل ومن ثمّ فصله من الورشة، فضلًا عن التأخيرات الدائمة في مواعيد الباصات والتي كان يدفع ثمنها من خصمٍ في الساعات.

هكذا تحوّل "الباص" والمواصلات إلى معركة وجود بالنسبة للعامل وحديث الشفاعمريين، فأبرقت الرسائل والعرائض المطالِبة بإلغاء التمييز الواقع على عمال شفاعمرو، والمطالِبة بتزويد البلدة بباصات إضافيّة وزيادة وتيرتها في ساعات الصباح.

وتجاهلت الحكومة وشركة "إيغيد" مطالبات العمّال وبلدية شفاعمرو، ومن بينها رسالتين أُرسلتا على يد رئيس البلدية آنذاك، جبور جبور في نيسان/ أبريل وتشرين الأول/ أكتوبر [17]1959، وعرائض بادر إليها عضو البلدية وسكرتير الحزب الشيوعي في البلدة شفيق الخورية "أبو الوليد"[18]. كما تحوّلت الباصات المتهالكة وغير الآمنة إلى نعوش طائرة بالنسبة للعمّال، إذ يعجّ أرشيف الشفاعمريين بقصص عن باصات حادَت عن مسارها في الطريق واستقرّت في قعر الوديان أثناء السفر، وأخرى رقصت مع الهواء وهي تنقلب بالعمّال وكادت أن تودي بحياة بعضهم دون صرفٍ للتعويضات. ووصل الأمر إلى أروقة الكنيست في استجوابٍ بهذا الشأن في آذار/ مارس 1959[19].

مع استشراء المعاناة اليومية والتنكيل الإسرائيلي في الحركة، تحوّل الباص إلى نقطة ارتكاز للاحتجاج الفلسطيني، وحيّزًا لجزءٍ من نضاله ضد سياسات الحكم العسكري في الحياة اليومية، إذ يعجّ أرشيفنا بعمّال نظّموا الإضرابات وسدّوا الطرقات على الباصات، من خلال إقامة متاريس الحجارة لمنع الباصات من السفر من القرية، وهي احتجاجات نُظّمت إبان هبة أو طوشة الباصات في شفاعمرو وبعدها.

في شباط/ فبراير من عام 1962 هاجم عمّال من شفاعمرو الباص الذي سافر من جانب المحطة احتجاجًا على عدم توقّفه فيها، وهو هجوم سبقهم إليه زملاؤهم في سخنين، حيث هاجم عمّالها باصًا في آذار/ مارس 1960. وفي عبلين، سدّ مئات العمّال الطريق أمام باص، احتجاجا على التمييز بتوفير الباصات لهم في أيلول/ سبتمبر 1960.

وهكذا نشأت العلاقة مع الباص بكل ما فيها من إرباكٍ وتناقُض، وعكست سياقًا من القهر اليومي وضبط حريّة الحركة والإقصاء عن العمل والسياسة، لكنها تحوّلت كذلك لبعض صور النضال الشعبي في حياة العمّال اليوميّة، وارتسمت فيها صور من الجفاء والرفض، وباتت عنوانا لتفريغ غضبٍ كان له أن يأخذ شكلًا ملحميًّا في ما بعد، ويرسم أولى ملامح هبّات الداخل الفلسطيني في يومٍ شفاعمريّ لم يُدرك عمّالها المطحونون، أنهم بسواعدهم يكتبون سرديةً ويودعونها عندنا ذكرى تنادينا لنصونها بما تستحقها.


هوامش:

[1] علي حبيب الله، جُندٌ وجوعٌ وجراد.. فلسطين في عام النفير، "متراس"، 25 نيسان 2020.

[2] إلياس نصر الله، شهادات على القرن الفلسطيني الأول، (بيروت: الفارابي، 2016)، ص 35.

[3] بابور أو "وابور": هي لفظة تركية محرفة عن الفرنسيّة " vapeur " أي بخار، ويقال إنها حُرّفت عن الإيطالية. ويقصد بها القطار أو الباخرة، وأطلقت في ما بعد على الآلات التي تعمل على الكاز المضغوط بداخلها.

[4] علي حبيب الله، المرجع السابق.

[5] علي حبيب الله، رحلة الدلعونا من السريان إلى الزنّار الأحمر، فسحة- عرب 48، 27 شباط 2020.

[6] إلياس نصرالله.

[7] إلياس عطالله، المرجع السابق. 44.

[8] "مفراتس" هي التسمية العربية المترجمة لخليج حيفا "מפרץ".

[9] عزمي بشارة، الخطاب السياسي المبتور ودراسات أخرى، (رام الله، مواطن المركز الفلسطيني لدراسات الديمقراطية، الطبعة الثانية، 2002) ص 54.

[10] امتدت مساحة أراضي شفاعمرو حتى عام 1933 نحو 125 ألف دونم، لكنها تقلصت بفعل مصادرة الاستعمار" الانتداب" البريطاني لـ30 ألف دونم، وإبرام صالح الأفندي صفقة لبيع 7000 دونم اخرين. أنظر:

Majid Al- haj, Social Change and Family Processes: Arab Communities in Shefara'm, (Oxford: Routledge, 1989).

[11] أرشيف الدولة، ملف "أعمال شغب شفاعمرو 1960"، ملحق ص 5.

[12] بينما بقي حتى عام 1958 قرابة 39 ألف دونم بملكيّة سكّان شفاعمرو (وهي مختلفة عن مساحة نفوذ شفاعمرو). Al-Haj, Ibid.

[13] أرشيف الدولة، مرجع سابق.

[14] المرجع السابق، ص 43 و45.

[15] الياس نصر الله، شهادات على القرن الفلسطيني الأول، (بيروت: دار الفارابي، 2016)، ص 192.

[16] مقابلة أجراها الكاتب مع السيّد إلياس جبور في 18 أيلول/ سبتمبر2021.

[17] عطاالله منصور، "باصات شفاعمرو"، "هآرتس"، 20 تشرين الثاني 1959

[18] شفيق خورية، إضراب العمّال وطوشة الباصات شفاعمرو 1959، موقع "من هون"، مقابلة "يوتيوب" مصوّرة 29 كانون الأول 2016.

[19] قدّم توفيق طوبي استجوابًا لوزير المواصلات في هذا الشأن. المصدر: "كول هعام"، " استجواب ت. طوبي بخصوص المواصلات في شفاعمرو من شهر آذار 1959"، "كول هعام"، 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1959. (عبريّة).

التعليقات